العراق.. العشائر عامل توازن بين الشارع والسلطة

تتواصل المظاهرات في بغداد ومحافظات جنوب البلاد ضد نظام الحكم، وقد أضرم خلالها المحتجون النيران في عدد كبير من المؤسسات الحكومية ومقار الأحزاب احتجاجا على الفساد ونقص الخدمات. 

وفي بلد نحو 60% من سكانه دون 25 من العمر وثلاثة أرباعهم يعيشون في المدن "انسلخ كثيرون من العراقيين في جنوب البلاد عن هويتهم العشائرية" خلال السنوات الأخيرة، بحسب ما يقول الكاتب فيليب سميث من معهد واشنطن للأبحاث.

لكنه سميث يشير إلى أن تلك الروابط تعززت اليوم على غرار كل مرحلة حساسة في العراق، فعندما سادت الفوضى مؤخراً في مدينة الناصرية جنوباً بقرار من لواء أرسلته بغداد من أجل "فرض النظام" كان مقاتلو العشائر هم من قطع الطريق على التعزيزات الأمنية.

وأوقف هؤلاء حمام الدم بالمحافظة التي سقط فيها 97 قتيلا، وفقا لمصادر طبية، معظمهم من المتظاهرين الشباب الذين قتلوا بالرصاص الحي في مدينة الناصرية، مسقط رأس رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي.

وكانت العشائر في العراق عامل توازن بين الشارع والسلطة على امتداد العقود. ولكن حين تغيب الدولة، وتسيل الدماء في احتجاجات مناهضة للسلطة في البلاد، يعود كلّ عراقي إلى عشيرته التي ترفع شعارها "نحن أولياء الدم".

بقوانينها وأعرافها وعاداتها وتقاليدها التي لا يستطيع التهرب منها أحد، وكميات السلاح التي تمتلكها، أصبحت العشائر اليوم من أبرز اللاعبين.

الديّة

وأسفرت أعمال العنف المستمرة منذ انطلاق الاحتجاجات المناهضة للحكومة في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن مقتل أكثر من 450 شخصا وإصابة أكثر من عشرين ألفاً بجروح.

ويقول الشيخ قيصر الحسيناوي من عشيرة الحسينات في الناصرية "العشائر هي التي ساهمت في إيجاد حلول للأزمة، والسياسيون لم يحركوا ساكنا".

وقدمت مئة عائلة بالفعل شكوى ضد القائد العسكري اللواء جميل الشمري الذي قاد عملية القمع في الناصرية، وحظيت تلك العائلات بدعم العشائر.

وفي بلد لا تزال "الديّة" فيه بعيدة عن القنوات القضائية الرسمية، بل تأتي نتاج اتفاق و"جلسة فصل" بين العشائر، يقف شيوخ الناصرية اليوم إلى جانب عائلات ضحايا القمع، مطالبين بالقصاص ممن كانوا سبباً في سقوط القتلى.

وتبرأت عشيرة الشمري من ابنها اللواء المفصول، بدلا من الدفاع عنه.

ولا تزال العشائر حتى اليوم تتدخل للحد من العنف، رغم أن لها تاريخا طويلا في المقاومة، وخصوصا عام 1920 عندما كان لها دور حاسم في الاستقلال ضد الاستعمار البريطاني.

فإذا اضطرت إلى حمل السلاح، يؤكد رجال شرطة -يقفون منذ شهرين في مواجهة المظاهرات- أنهم يفضلون حينها الانسحاب على المواجهة، لأنهم يرون أن "الدولة لن تكون قادرة على حماية رجالها من القانون العشائري".

وكانت العشائر دائما مفتاح العودة إلى الهدوء في مناسبات عدة، لأنها رجالها موجودون في كل مكان، بين المتظاهرين، ورجال الشرطة، وفي الحكومة.

وصار ذلك نقطة قوة للعشائر في تعزيز مكاسبها السياسية والاقتصادية، في واحد من أغنى دول العالم بالنفط والذي تنخره المحسوبيات.

استئجار العشيرة

ويرى نيكولاس هيراس الباحث في مركز "أي نيو أميريكان سيكيوريتي" أن العشائر اليوم تسعى إلى إعادة التفاوض على "العقد الاجتماعي".

ففي مدينة البصرة النفطية الواقعة إلى أقصى جنوب العراق، تتظاهر العشائر بشكل روتيني بسلاحها، الثقيل أحيانا، للحصول على وظائف وعمولات من شركات النفط، عراقية كانت أم أجنبية. لكن الأزمة هذه المرة أعمق بكثير.

ويشير هيراس إلى أن "غضب العشائر موجه اليوم إلى المسؤولين في بغداد المتهمين بعدم الالتزام بجانبهم من العقد الاجتماعي" الذي يقضي بأن "يكون شيخ العشيرة قناة موارد لأفراد عشيرته، مقابل أن يقدموا له الولاء المطلق".

لكن وسط بنية تحتية محتضرة ونقص في الموارد، فإن الدولة غير قادرة على الاستجابة إلى مطالب العشائر.

ويقول سميث إنه في حال نجحت السلطات مجددا في "تلبية مصالح واحتياجات" العشائر المختلفة، يمكن إحياء العلاقة، لكن المهمة كبيرة لأن "جسوراً عدة قد قطعت".

ويضيف أن "الوظيفة لا تكفي لشراء أشخاص أثقل فساد المؤسسات وسوء إدارة الدولة كاهلهم". ويختم بالقول "يجب ألا ننسى شيئاً، وهو أنه لا يمكن شراء عشيرة أبداً، بل يمكن استئجارها".

المصدر: الفرنسية

مقالات متعلقة

الثلاثاء, 10 ديسمبر - 2019